الخزف بين المادة والتكوين
بالإضافة إلى كون الخزف نتاج يدوي، متنوع في مكوناته الأساسية، فهو يأخذ في مجال الآثار دلالات أخرى مختلف، فمصطلح خزف يصبح في أكثر الأحيان شمولياً عندما يعبر عن مرحلة تاريخية فنقول مثلاً خزف بلاد الرافدين أو خزف ( تيراسيجلاتا ) الروماني فيقصد بذلك الإشارة إلى أشياء فنية مصنوعة من الخزف ذات خصائص مشتركة : جغرافية، حضارية، وتقنية فهذه الصناعة الفنية بدأت تأخذ إطارها الجغرافي والحضاري في النصف الثاني من العصر الحجري الحديث حوالي / 6000 ق.م / في الشرق الأدنى مثل : حسونة في شمال العراق وأوغاريت ( رأس شمرا ) في شمالي سوريا.
ومع تصاعد الحاجة إلى الأواني الخزفية ذات الوظائف المتعددة بدأ ظهور الخزف وانتشاره وتطورت الطرق التقنية لتصنيعه تبعاً لتبدل الظروف الاجتماعية للإنسان في مواطن الاستقرار الجديدة من قرى ومستوطنات ومدن، وكذلك مع بداية العصور التاريخية حوالي / 3000 ق.م / ومنذ تلك الفترة دخل الخزف ليلبي حاجات إنسانية متعددة، سواءً كانت منزلية أو مدفنية أو طقسية.
ففي الحياة اليومية استخدمت الأواني الفخارية لأغراض شتى كتخزين الحبوب والمواد الغذائية والسوائل، وفي حالات أخرى لدفن الموتى أو لاحتواء رماد الجثث المحروقة طبقاً لطقوس دينية محددة أو حتى لتزويد الميت بمتطلبات العيش بعد الموت ولضمان استمراره في الحياة الماورائية حسب معتقدات بعض الشعوب القديمة. لهذا تشكل مادة الخزف لمؤرخي الفن ولعلماء الآثار مادة أساسية لدراسة تطور الحضارات عبر العصور، وأضحى علم الخزف اليوم من العلوم الأساسية ضمن نطاق علم الآثار، إذن ما هي خصوصيات هذا العلم لناحية دراسة وتصنيف الخزف ومواده وتنوع أشكاله وزخارفه ؟ وما هي المواد الأساسية التي يتكون منها الخزف ؟.
كما سبق وأشرنا في مقدمة هذه الدراسة فإنه لا يمكن التحدث عن الخزف دون معرفة التربة وخواصها والتي تكون المادة الأساسية لمعظم أنواع الخزف، فالتربة الممزوجة بالماء تشكل الطين المرن واللزج القابل للتشكيل والتقلص والتماسك بعد الجفاف والقابل للصلابة والتحجر بعد الشي، والتربة هي مزيج من السيليكا والمانييزيوم التي تسمى الصلصال بالعربية وتسمى آرجيلا ( Argilla ) باللاتينية.
وتعتبر عملية تحضير الطين أو العجينة الطينية أساس صناعة الخزف لأن اختيار الخامات وطرق تحضيرها يحددان نمط القطع المصنوعة منها لهذا فإن التربة تمر بعدة مراحل قبل تشكيلها فتصفى أولاً لتنظيفها من الشوائب وذلك بسحقها وتنخيلها وتصويلها، وتنقل بعدها إلى حوض الترقيد، وقد يبقى الطين السائل في الحوض لفترة طويلة تبعاً للحاجة الأساسية للتصنيع، وبعد جفاف الطين يؤخذ من الحوض ويضاف إليه الرمل الناعم ثم يعجن بالأيدي أو بالأرجل كي يخلص من الفقاقيع الهوائية، ويصبح أكثر تجانساً وصالحاً للعمل.
تكوين الشكل الفني للخزف:
ثمة طرق استعملت قديماً في عملية التكوين والتي تبدأ بكتلة الطين وتنتهي بالإناء أو بالشكل الفني المارد تشكيله، ولهذا نجد ثلاث طرق وهي: التشكيل باليد، التشكيل بالدولاب، والتشكيل بالقولبة والصب، ويعتبر التشكيل باليد التقنية الأكثر قدماً والأكثر بساطة حيث يتم بناء الآنية مثلاً بتكوين حبال من الطين تلف لولبياً وتأخذ شكل الحلقات المتتالية التي تسوى باليد لتكون جدران الوعاء، ويستعين الخزاف بعدد من الأدوات البسيطة المكونة من الخشب كلمسوط والمقشط، وفي حالة تشكيل الأعمال الكبيرة نسبياً كالتماثيل التي تفرغ من الداخل كي لا تشوه أو تتشقق و تنفجر أثناء الشي.
فعلى صعيد الاكتشافات الأثرية، نشير إلى أن الأعداد الكبيرة من الأواني القديمة المشكلة باليد والتي تعود إلى الفترة الممتدة بين الألف السادس والألف الثالث ق.م، تعبر عن تناغم في العناصر وعن جمالية راقية تعكس قدرات الخزافين القدماء في تلك الفترة.
أما التشكيل بالدولاب، فيعود إلى النصف الثاني من الألف الرابع ق.م، وأول شكل بدائي لدولاب الخزاف ( العجلة ) اكتشف في وادي الرافدين، وانتشر استعماله في العالم القديم بعد ذلك، وفي أول الأمر كان الدولاب يدوياً يحرك باليد، وهو عبارة عن قاعدة ثابتة وقرص متحرك يجمعها محور عامودي، وظهر بعده الدولاب ذو القرصين الذي يحرك بواسطة القدم وهو الأكثر تطوراً ولا يزال مستعملاً حتى يومنا هذا.
وساعد اكتشاف الدولاب السريع الخزافين القدماء على التحكم بالمادة واقتصرت وظيفة اليدين على تسوية وتشكيل العجينة الطينية بشكل أفضل، ويجب الإشارة هنا أن الدولاب يسمح بتشكيل الأعمال الفخارية الدائرية المقطع فقط، ففيما يخص توابع القطعة الخزفية ( كالمصب أو الزلومة أو العنق أو القاعدة المرتفعة أو المصفاة )، فإنها تصنع بمعزل عن الوعاء وتشكل منفردة ثم تضاف إليها وتلصق بعد أن تجف قليلاً بواسطة الطين الطري.
أما تقنية القولبة والتشكيل من خلال القالب المعد لغرض النسج وإعادة الإنتاج بأعداد كثيرة لنفس النموذج فهي تقنية قديمة أيضاً استخدمت على نطاق واسع في حوض البحر الأبيض المتوسط كما تشير إليه الاكتشافات الأثرية في وسط مدينة بيروت على سبيل المثال فالقالب يصنع انطلاقاً من نموذج تم تشكيله باليد أو بالدولاب، وتم طبخه وتحول إلى نموج من الطين المشوي ( الفخار )، ويمكن للخزاف من خلال ضغط كمية من الطين تمدد فوق القالب وتضغط باليد كي تأخذ شكل النموذج، وما يحمله أحياناً من أشكال زخرفية بإنتاج نماذج متعددة ومتكررة لنفس النموذج، وفي الحالات الأكثر تعقيداً يتطلب النموذج عملية تشكيل مختلفة، وتتم تجزئة العمل تبعاً لطبيعة عناصر النموذج، وفي كلتا الحالتين يتطلب إنجاز العمل الفني الخزفي تدخل الخزاف النهائي، وذلك لمعالجة السطح بعد القولبة لتسوية النتوءات، ولإخراج القطعة بشكلها الفني المراد لها، ومعالجة السطح تتم في الحالات الثلاث لتشكيل القطعة إن كانت باليد أو على الدولاب أو بطريقة القولبة، وتهدف هذه العملية إلى صقل العمل الخزفي وجعله متجانساً وناعماً، ويتم ذلك بعد جفاف العجينة بعض الشيء بواسطة أدوات خشبية أو حجرية أو من العظم، وتساهم هذه الطريقة في سد المسام، ويصبح الإناء أقل نفاذاً للسوائل وأقل قابلية للرشح.
وللوصول لنتائج مميزة، كان الخزافون يعمدون إلى تحضير سائل طيني من التربة المختلفة الألوان تستعمل كطلاء وتسمى بالمصطلح الأثري البطانة ( Engobe / Slip ) تطلى به الأعمال الفنية قبل الشي في الغالب ويشكل الطلاء في هذا الحال غلافاً يكسب جدارها لوناً جديداً يختلف عن لون العجينة، وتتم هذه العملية بطرق عدة : فإما أن يغطس الإناء في حوض السائل الطيني، وإما أن يمدد السائل على سطحه بواسطة فرشاة أو قطعة من الجلد أو القماش.
منقول للفائدة
Bookmarks